في السنوات الأخيرة، شهد العالم العربي انفجارًا في عدد المهرجانات السينمائية، من مهرجان الجونة، البحر الأحمر، القاهرة السينمائي، مراكش، قرطاج، أبوظبي، مسقط، بيروت، الرياض، وعمّان، وصولًا إلى موجة مهرجانات أصغر تُقام في الشارقة، جدة، الطائف، ورام الله وغيرها.
تضاعف عدد المنصات، تنوّعت المسميات، وتحوّل المشهد الثقافي فجأة إلى خريطة تُضاء فيها المدن بالأحمر، والضيوف، والعروض العالمية.
لكن هذا الزخم لا يمكن قراءته كـ “تنشيط ترفيهي فقط”.
هناك قصة أعمق خلف هذه الظاهرة، تتعلق بالهوية، الاقتصاد، والسياسة الثقافية.
1. الفن كواجهة… وصناعة علاقات عامة وطنية.
في منطقة تتنافس فيها المدن على مكانة اقتصادية وسياحية، أصبحت السينما لغة ناعمة للنفوذ.
المهرجانات هنا ليست مجرد عروض أفلام — إنها:
صناعة صورة خلق علاقات مع هوليوود ونتفلكس وصناع المحتوى منصة لاستقبال العالم تحت هوية المدينة
ومن البحر الأحمر إلى أبوظبي، أصبح السجادة الحمراء جزءًا من دبلوماسية المدن.
2. دورة اقتصاد ثقافي جديدة.
هذا الازدهار لم يأت من فراغ؛ الحكومات العربية أنشأت:
صناديق دعم إنتاج جوائز تطوير مشاريع برامج مواهب منح للسيناريو وبناء بنى تحتية للستديوهات
مهرجان البحر الأحمر مثلًا، لا يكتفي بالعروض، بل يمول أفلامًا سعودية وعربية ويعيد توزيعها عالميًا.
مراكش يقدم منصات للإنتاج المشترك.
والقاهرة يحوّل النقاشات الفكرية إلى لغة إعلامية.
وهكذا أصبحت المهرجانات جزءًا من دورة رأس المال الثقافي وليس ترفًا عابرًا.
3. بين الاحتفاء والفراغ… أين المشكلة؟
كثرة المهرجانات لا يعني ولادة صناعة سينمائية مكتملة.
هناك أسئلة صارت أكثر حضورًا:
هل نقدم مهرجانات أكثر مما نقدم أفلامًا؟ هل السجادة الحمراء تغلب المحتوى؟ هل الحضور صار قيمة بحد ذاته بدل الصناعة؟
بعض المهرجانات تقع في فخ “الشكل” — مبانٍ رائعة، إضاءة، ضيوف — دون استثمار طويل الأجل في المخرجين، السيناريوهات، أو المدارس السينمائية.
4. التحول الأخطر: السينما كهوية وطنية،
في دول كالسعودية، الإمارات، قطر، ومصر، أصبحت السينما مشروع سيادة ثقافية.
المهرجان هنا ليس مجرد فعالية،
بل وسيلة:
لخلق ذاكرة ثقافية تدريب كوادر كتابة رواية وطنية جديدة وتقديم صورة لا تعتمد على الإعلام الأجنبي
السينما ليست فيلمًا فقط، بل أداة سردية لصياغة المستقبل.
5. ما الذي نكسبه؟
رغم الانتقادات، هذه الحركة الضخمة أنتجت:
ولادة جيل جديد من كتّاب السيناريو والمخرجين العرب دخول أسماء خليجية في مهرجانات عالمية ظهور تمويل عربي في كندا وأوروبا وتحول بعض المدن إلى مراكز تصوير دولية
لا يمكن إنكار أن الإنتاج العربي اليوم أقوى من 10 سنوات مضت.
6. ما الذي ينقص؟
كي لا تبقى المهرجانات مجرد واجهة، نحتاج إلى:
مدارس سينما جادة مناهج كتابة وإخراج حفظ أرشيف سينمائي عربي استثمار في النقد السينمائي والربط بين المهرجانات والقطاع الخاص
التحليل الحقيقي يبدأ حين تصبح المهرجانات وسيلة لتأسيس حضور دائم، لا حدثًا سنويًا فقط.
خاتمة؛
ازدهار المهرجانات السينمائية العربية ليس حدثًا صدفة،
بل انعكاس لرغبة المنطقة في صناعة روايتها الخاصة.
إنه سباق دول ومراكز نفوذ وثقافة، لكنه أيضًا مؤشر على لحظة تقول إن العرب لم يعد دورهم التلقي فقط — بل الصناعة، والتأثير، وتحديد شكل الصورة التي يشاهدها العالم.
المشهد اليوم مثير، لكنه لا يزال في طور التشكّل.
والسؤال الذي يظل مفتوحًا:
هل ستصبح هذه المهرجانات بنية تحتية لصناعة مستقرة؟
أم تظل مواسم للظهور؟
الإجابة ستحدد مستقبل السينما العربية لأعوام قادمة.









