بين الترفيه والتهكم… كيف فقدنا إنسانيتنا ونحن نضحك؟
لم يعد الضحك بريئًا كما كان. في زمن الترندات السريعة، صار الضحك سلعة، والسخرية رياضة يومية يمارسها الجميع دون وعي. صفحات كاملة تُبنى على جراح الآخرين، ومقاطع تجمع ملايين المشاهدات على حساب كرامة إنسانٍ لم يطلب أن يكون “محتوى”. لقد صار المجتمع يضحك وهو ينزف؛ يضحك من التعب، من الوحدة، من القبح، من كل شيء لا يستطيع تغييره. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن الإفراط في السخرية ليس علامة وعي، بل علامة إنهاك جماعي. دراسات علم النفس الاجتماعي تشير إلى أن التعرّض المستمر لمحتوى ساخر يقلّل حسّ التعاطف ويزيد من اللامبالاة. أي أننا نضحك اليوم أكثر… لنشعر أقل.
حين يصبح الألم مشهدًا للتسلية.
هل تذكرون متى كانت آخر مرة شاهدتم فيها مقطعًا مؤلمًا… ولم تضحكوا؟ كثير من الناس فقدوا القدرة على التفريق بين “الطرافة” و“الإهانة”. صار التنمّر يُقدَّم على أنه “كوميديا”، والتقليد الساخر على أنه “فن”. حتى الأطفال الآن يصنعون محتوى يسخر من مظهرهم أو من غيرهم، بحثًا عن “الترند”. وحين يتحوّل الألم إلى عرض جماهيري، يفقد الإنسان شيئًا من طهارته. الضحك الجماعي على سقوط أحدهم ليس فكاهة، بل سقوط آخر للجميع.
الضحك الذي يقتل الوعي.
تفسير هذه الظاهرة ليس بسيطًا. علم النفس الرقمي يسميها “التحصين العاطفي السلبي” — أي أن الدماغ يعتاد الألم من كثرة مشاهدته حتى يصبح غير مؤلم. ومع الوقت، نضحك على المآسي لأننا لا نستطيع مواجهتها. فنختار الهروب إلى الضحك بدل الفعل، والمشاهدة بدل الموقف. هكذا تُبنى مجتمعات بلا بوصلة، تضحك من المظلوم، وتصفّق للظالم، وتدّعي الحياد باسم “الترفيه”.
حين يصبح التريند أهم من الإنسان.
الترندات السامة ليست مجرد مقاطع، إنها انعكاس لواقعٍ اختلطت فيه القيم باللايكات، وصار التفاعل أهم من الكرامة. ما عاد أحد يسأل: هل هذا مؤذٍ؟ هل فيه تجريح؟ المهم أن يحصد “المشاهدات”. المنصات تعرف ذلك وتغذّيه. كلما شاهدنا مقطعًا مسيئًا أكثر، زاد ظهوره في خوارزمياتنا أكثر. دوّامة من التكرار تجعلنا نستهلك الإساءة كما نستهلك الترفيه، حتى يصبح القبح مألوفًا… واللؤم عاديًا.
ضحكٌ بلا وعي… جرحٌ بلا صوت.
تقول صاحبة الرداء الأحمر:
“لم يكن الضحك يومًا مشكلة، بل غياب الوعي به.”
في زمن السخرية المفتوحة، أصبح أجمل أشكال التمرد أن تضحك من قلبك… لا على أحدٍ آخر. أن تضحك لأنك فهمت، لا لأنك شاركت القطيع. فالضحك الحقيقي يحرر، أما الضحك الموجَّه… فيسجنك دون أن تشعر.
بقلم صاحبة الرداء الأحمر:
“حين تتحدث الروح… ويصمت الجمال.”








