حين تغيّرنا العدسة… أكثر مما غيّرناها

في زمنٍ صار فيه الجمال إعدادات رقمية، من بقي يشبه نفسه؟

نعيش اليوم في عالمٍ يعيد رسم وجوهنا كل صباح. لم نعد ننظر في المرآة لنتأكد من أنفسنا، بل نفتح الكاميرا لنقيس مدى تشابهنا مع “نسخةٍ أجمل”.

الفلتر الذي بدأ كلعبة صغيرة على السوشيال ميديا، صار الآن معايير حياة. صار الجمال نسخة موحّدة: نفس الشفاه، نفس الأنف، نفس العين الممدودة، نفس الوجنة المرفوعة…

وجوه منسوخة، تختلف الأسماء وتتشابه الملامح. لم يعد الناس يُحبّون وجوههم، بل يتصالحون فقط مع النسخة المعدّلة منها. حتى الطفل الصغير يعرف كيف “يخفف الأنف” و”يفتح البشرة”،

وكأن القبح صار عيباً أخلاقياً لا شكلاً بشرياً. لكن الأخطر ليس في التقنية… بل في الفكرة. الفلاتر لم تغيّر ملامحنا فقط، بل غيّرت شعورنا تجاه أنفسنا. صرنا نخاف من الظهور الحقيقي أكثر من أي شيء آخر. نخاف من الضوء الطبيعي، من الكاميرا الخلفية، من اللقطة العفوية، لأنها تفضح إنسانيتنا… بلا فلتر.

يقول علماء النفس إن كثرة التعرّض للصور المعدّلة تُضعف مفهوم الهوية وتزيد اضطرابات الثقة بالنفس، وأن المقارنة الدائمة مع “الوجوه الرقمية” تخلق شعوراً بالنقص حتى عند الجميلين. وما كان في السابق مرضاً نادراً صار اليوم عادةً جماعية.

جيل الفلاتر لم يعد يتزيّن أمام الناس، بل أمام المرآة نفسها… كي تصدّق أنه موجود. جيل يعيش داخل انعكاسه، يضبط زواياه قبل مشاعره، ويُخفي روحه تحت بشرة مثالية لا تشي بالعمر، ولا بالتعب، ولا بالحقيقة.

في النهاية، لا يُمكننا لوم التقنية… لكن يمكننا أن نلوم أنفسنا حين نسمح لها أن تسحبنا من الوجوه إلى الأقنعة، ومن الإنسان إلى الصورة.

شارك المقال
Scroll to Top